رواية حارة النصارى لنبيل خوري، قراءة في العمق

رواية حارة النصارى لنبيل خوري، قراءة في العمق


رواية: حارة النصارى/ نبيل خوري

حينما قرأت رواية حارة النصارى للروائي نبيل خوري، كنت ما أزال على مقاعد دراستي الجامعية، إن ما يميز هذه الرواية بالذات هو موضوع النضال المشترك بين مسلمي ومسيحي فلسطين، وغيرها من المواضيع التي ناقشها الكاتب. 
سأعرف بالكتاب، وسأشرع بالحديث عن تفاصيل هذه الرواية.

كتاب حارة النصارى: جنسها رواية، نُشِرَت للمرة الأولى عن دار النهار للنشر عام 1968، ثم طبعت مرتين في ثلاثية فلسطين عام 1971وعام 1977.
 الرواية تتكون من أربعة فصول، يليها ست رسائل.

تدور أحداث الرواية في حارة النصارى و( هي واحدة من الأحياء الأربع الكبرى في مدينة القدس الشرقية، وتقع داخل أسوار مدينة القدس، الأحياء الأربع الأخرى هي الحي اليهودي، الحي الإسلامي وحارة الأرمنويقع في الحي المسيحي في الركن الشمالي الغربي من المدينة القديمة، ويمتد من باب جديد في الشمال، على طول الجدار الغربي من المدينة القديمة وصولًا إلى باب الخليلحارة النصارى تحتوي على نحو 40 مكانا مقدسا مسيحيا. من بينها كنيسة القيامة، واحدة من أقدس الأماكن في المعتقد المسيحي، هذا الحي معظم سكانه من المسيحيين العرب وهو إلى جانب حارة الأرمن الذي يقطنه الأرمن المسيحيين من التجمعات المسيحية الكبرى في القدس القديمة).
وتدور هذه الأحداث بعد حرب 1948 وقوع الجزء الشرقي من القدس وعدد من المدن الفلسطينية الساحلية تحت الاحتلال وتمتد إلى ما بعد عام 1967 وما جرى من احتلال فلسطين بأكملها مرورا بإضرابات وثورات خاضها الفلسطينيين عام 1921 و 1928 و1932و 1936.
البطل في هذه الرواية هو أحد أبطال حارة النصارى وهو " يوسف راشد" وهو من قاد الإضرابات والثورات وتصوره لنا زوجته سلمى بعد استشهاده وهي من تلعب دور الراوي في هذه الرواية.
بدت ملامح سلمى  يائسة مستسلمة كارهة لوطنها فلسطين وللقدس بسبب رحيل زوجها الذي تحب "يوسف راشد"  وهناك إشارة إلى خوفها من المطر الهاطل والمطر له دلالة على الحزن، ومن ذلك حديثها عن جاراتها اللواتي استشهد أزواجهن وهن يبتسمن أما هي فلم تكن قادرة على الابتسام.
وهناك إشارة إلى سقوط القدس في أربعين ساعة كالحلم ...
وتعود إلى حالة اليأس فتقول "ماذا نفعتنا بطولاتك؟"
" الجبناء ينامون الآن بجانب زوجاتهم وأطفالهم .. ليتك كنت جبانا... ليتك لم تحب القدس .. ليتك لم تحب حارة النصارى..حياتك ذهبت فداء للخونة يا يوسف ...
القدس لا تستأهل ، ولا حتى حارة النصارى ..
الذي يدفع الثمن نحن الأرامل وأطفالنا الأيتام ...
كن بجانبي الآن ولتذهب القدس إلى الجحيم ..."
لكن هذه الصورة الانهزامية تلاشت عندما بدأت تروي لنا كيف بدأ التجهيز للمعركة 1967 وعندما رأت يوسف ينظف رشاشه قال لها: "قبل نهاية الأسبوع سنذهب إلى شواطئنا لن تذهبي لبيروت لرؤية البحر يا أم رجاء عاد بحرنا إلينا يا حبيبة، وقتها كادت أن تطلب رشاشا كي تشارك في النصر وكلما أعددت فنجان قهوة كانت تقول فنجانك التالي سيكون في تل الربيع .."

وفي الفصل الثاني من الرواية  صور الكاتب مشهد سقوط القدس الغربية بيد الاحتلال ولقد أثار هذا التصوير المشاعر وكأننا الآن نشاهد هذا الحدث القاسي والمؤلم.
" الراديو ...
القاهرة: أم كلثوم تغني راجعين بقوة السلاح.
دمشق: نشيد الله أكبر...
عمان : موسيقى العرب...
بيروت : فيروز تغني العودة ...
"اسرائيل": نشرة الأخبار تحدث المذيع... سقطت القدس...
تجمع رفاق السلاح في منزل البطل يوسف راشد، وأرسلوا أحد يستطلع خارج أسوار المدينة القديمة ليتأكد من الخبر.. كل دقيقة كانت تمر وهم ينتظرون المرسال كالدهر... نصف ساعة ولم يعد الرفيق... يحرقون السجائر... يحرقون أعصابهم... حبوب المهدئة للأعصاب لم تنفع...
ودّ يوسف لو يبكي كما بكى 1948 عندما ضاع نصف الوطن... عاد أزيز الطائرات ركض الجميع إلى السطح يحملون الأسلحة...
عاد الرفيق وقال: رأيت دبابات العدو أمام الفندق الوطني وهو على بعد دقائق... تابع الرفيق خارج الأسوار جميع البيوت رأيت رايات الهزيمة...
" إذاعة العدو: إلزموا منازلكم... ارفعوا أعلاما بيضا...
رصاصكم لم ينقطع... عاد الأمل إلى نفسي (سلمى)  فجأة أحببت القدس كما لم أحبها من قبل... أحببت حارة النصارى... كل حجر فيها كل شجر كل طفل ورجل وامرأة..."
وبعد ذلك تبدأ بتصوير للحياة الطبيعية قبل الاحتلال فيقول الكاتب على لسان سلمى...
" حننت إلى رائحة الفلافل ..إلى طقطقة النرجيلة في المقهى تحت منزلنا...إلى بائع الكعك مع السمسم والبيض... منذ أن وعيت الدنيا لم أعرف أن أنام وأحيا وأحب وأتنفس إلا في هذه الحارة...
(لكن)
رصاصهم توقف... نزل يوسف... ليقول انتهت الذخيرة...
صوته يدوي...كأنه يقول لتائه في الصحراء فُقِد الماء...
أو لمحاصر في القلعة انتهى الخبز...
أو كأن تقول لعامل في المنجم لا هواء...
إذن سقطت القدس القديمة، إذن سقطت كنيسة القيامة... المسجد الأقصى... وحارة النصارى...

بدت ملامح بطل الرواية "يوسف" تتضح وهو صاحب دكان بسيط جدا لكنه ... كان قائدا للاضرابات والثورات والعقل المدبر لها...
دائما يحمل الهمّ ... يحلم في أن تعود فلسطين 1948  لكنه صدم باحتلال 1967، ووقوعه تحت الاحتلال، حارب كثيرا بكل ما يملك...
المختار كان له دور، في هذه اللعبة فهو كان يعطي الأمان للمطلوبين ليسلموا أنفسهم، لكنه يخدعهم كما فعل مع يوسف عندما اقنعه المختار بتسليم نفسه  لكن والد سلمى رفض ذلك، والد سلمى كان المرجع الذي يلجأ إليه يوسف عند الشدائد لرجاحة عقله.

كما أن يوسف  رفض أن يلبس ثياب امرأة ويتسلل من الحارة عن طريق السطوح المتلاصقة التي لا يعرفها اليهود، رفض ذلك وآثر السجن على هذه الفكرة، لكنه فعل بعد إصرار من والد سلمى، لكن يوسف تعرض للاعتقال ومكث في السجن.

الفصل الثالث:
عودة للقدس بعد 1967 عندما احُتلت، تصورها سلمى وهي تروي لزوجها بعض تصرفات و انتهاكات تتعرض لها مدينة القدس، وحارة النصارى. 
" إنك لن تحتمل القدس في ظل الاحتلال، إنك ستموت وأنت ترى "اسرائيليا " يقبل إسرائيلية " في المسجد الأقصى أو على قبر المسيح...
القدس مدينة أشباح غدت...
إنهم يتزوجون بحانب "حائط البراق" يفرقعون زجاجات الشمبانيا يرقصون يغنون..
إنهم لا يبكون... عند الحائط... لماذا يبكون نحن نبكي.. نحن نبحث عن حائط مبكى نبكي على جداره الوطن الضائع، الكرامة الضائعة ... التاريخ الضائع ..."
عودة لروح الاستسلام والهزيمة ... فتقول :
" عام 1952 ذهبنا لجنين لزيارة أحد أقاربك شاهدت زوجة رفيقك الشاعر عبد الرحيم محمود تمشي عارية في الشارع، مجنونة، والناس يتهامسون: مجنونة أطفالها جياع... عقلها ضاع... ألم تتعظ ؟!
ألم تقل لي أن هذا هو مصير زوجة كل مناضل في هذا البلد...
أتريد لي هذا المصير ؟!"
بعد ذلك  بدأ الحديث عن المشانق... امتلأ السجون... المعتقلات الخاصة... ثم عرض الكاتب قضية الخونة "العملاء"
وقد كان يوسف يسعى لقتل كل خائن "عميل" لكن والد سلمى عارض ذلك بشدة... ويوسف العنيد المحترق من أجل وطنه رفض الإنصياع لكلامه...
وبعدها انطلقت أول رصاصة في الظلام لتضع حدا "للسماسرة"
ثم الثاني...
الثالث...
الرابع...
والعاشر والعشرون...
وصفق الناس و هللوا... صرخو الموت للخونة...
لكن، هل جميع الذين قتلوا خونة؟!
آخر واحد قتل كان رجلا وطنيا بشهادة الجميع... والذي سقط بعدها كان أحد كبار زعماء القدس هؤلاء ليسوا خونة...
وانحرفت الثورة كما يتم سرقة كل الثورات...
تقول سلمى على لسان يوسف :"عام 1936 قبل موجة الاغتيالات كانت العائلة إذا سقط منهم قتيل لموته عرسا... بعد الموجة أصبحت العائلة تخجل من موت أحد أفرادها.. فكل من قتل أصبح خائن..."
الفصل الرابع:
تصور سلمى استشهاد البطل على أرض حارة النصارى...
"صوت يقول بعربية (مكسرة) : إن القدس قد سقطت وأن على جميع الأهالي رفع الاعلام البيض فوق منازلهم وأن عليهم البقاء داخل منازلهم إذا أرادوا المحافظة على حياتهم والاستماع إلى تعليمات جيش الدفاع "الإسرائيلي"  ... الجيش المنتصر ..
لقد احتلوا القدس أخيرا...
احتلوا كل فلسطين أخيرا...
بدأ تهديد أهالي القدس بالعقاب... إذا استمروا بالمقاومة "
لم يستطع البطل "يوسف" أن يعيش في ظل الاحتلال وقد حاول أن ينتحر فقد كان يقول...
"لا أستطيع مشاهدة جندي واحد يطأ حارة النصارى حارة النصارى والقدس القديمة ..."

لكن الرجل الأسطورة... يقاد ذليلا... كأي مجرم عادي، وقد كان أحد رفاق يوسف قد أقسم أن يقتل أول جندي يطأ أرض حارة النصارى، إذ بيوسف يلمحه من بعيد وكأنه يحثه أن يف باليمين، فحسم الموقف وألقى بالقنبلة.. فكانت شهادة يوسف ومصرع الجندي الصهيوني...
بعد ذلك... ضم اليهود القدس القديمة إلى القدس الجديدة، عاد اليهود إلى حائط "المبكى" وقاموا بطرد العرب من حارة المغاربة، واحتل مساحات كبرى من الأراضي العربية في القدس، ليقيموا عليها مساكن لهم، ودنس اليهود المسجد الأقصى والقيامة..
عاد الأمل من جديد...
عند قول سلمى في نهاية الرواية وكأن نبيل خوري يبث  الأمل  في نفوسنا 
" أمس، نزعت السواد المحيط بصورتك...
عدت فعلقتها بلا سواد، في صدر الصالون.. أنت لم تمت ..
كل فدائي هو أنت..
دمك لم يذهب هدرا..
لقد روى أرض فلسطين، أرض القدس، أرض حارة النصارى ..
صوت فيروز ..
البيت لنا ... القدس لنا .. "

إن الرواية تتحدث عن  شاب مقاوم سقط شهيدًا في عدوان حزيران 1967، لتعيش زوجته معاناة نفسية، بعد موته، وهي ترى الخونة يرثون القدس: "الجبناء ينامون الآن بجانب زوجاتهم وأطفالهم... إنني أراهم كل يوم يمشون في الشارع بلا خوف... القدس لا تستأهل، ولا حتى حارة النصارى لكن سرعان ما تفيق البطلة، تستعيد نفسها، ومدينتها، حينما تشتعل الثورة، فتقول: "أمس نزعت السواد المحيط بصورتك... أنت لم تمت، كل فدائي هو أنت".  فربما يكون هذا هو حلم الروائي نفسه، ليستعيد صورة حارته، وينزع عنها الشريط الأسود، فالقدس حاضرة لديه، حتى وهو يكتب في الجزء الثالث من الثلاثية؛ "القناع"، عن بطل من القدس، يعيش في باريس، ورغم أنه لا يشعر حنينًا قويًا، فإنه لا يمكنه الهروب من مدينته.
لتظل حارة النصارى، الحارة الخصبة، التي دفعت رشاد أبو شاور، ليختارها مقرًا لعلاقة حب في قصة "عودة الغريب".

أتبع الكاتب الرواية بست رسائل،  حيث أنها لا تحمل عناوين... وبعضها لا يذكر فيها أسماء لأشخاص كأن تبدأ الرسالة بــ(إلى ولدي، إلى صديقتي)
الرسالة الأولى: من أم إلى ولدها "رامي" تذكر فيها أن أصل والده من القدس التي كانت تعني أكثر من القيامة والمسجد الأقصى.. أكثر من التعبد أو الصلاة أو القداسة ..
إنها وطن ..
لكنه لم يعرف الحقد والتشاؤم إلا عندما صعد في القدس يوم 8حزيران ليرفع سارية طويلة علما أبيض يعلن فيه لنفسه وللعرب والناس وللعالم أن القدس قد ضاعت...

الرسالة الثانية: من ابن لامه... انتفاء تعاليم المسيح .. لا تصلين كما رأيتك تصلي دائما..
لا ترسمين علامة الصليب على وجهك وتتمتمين المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة...
قولي له.. أننا لن ندعو بعد اليوم إلا للحقد والكراهية والقتل.
أخبريه : أننا لن ندير خدنا الأيسر لمن ضربنا على الخد الأيمن..

الرسالة الثالثة : من أم إلى ولدها .. تعرض لقضية الهجرة من القدس التي يرفضها  أهلها بكافة الوسائل والرسالة تتحدث عن تمسك أهل القدس بالقرية القديمة.

الرسالة الرابعة : من شاب إلى صديقته وهي رسالة تعرض الضياع الأخلاقي وضياع الهوية بعد ضياع فلسطين ..
وفيها من مظاهر السكر والتيه ما فيها.. و عدم الثقة بالنفس بأنه قادر على أن يفعل لفلسطين وللقدس شيئا..

الرسالة الخامسة : لم تبدأ كسابقاتها من الرسائل وأنها لم تأتي صريحة وواضح لمرسلها ولا لمستلمها...
وهي تعرض لقضية الحيادية التي يحاول بعض الناس أن يتخذها كأسلوب حياة خصوصا مع القضية الفلسطينية.. لكن الوطن عندما يضيع لن يبق أحد على الحياد سيحمل الجميع سلاحا ليدافعوا عن وطنهم.
وإذا  دخل اليهود القدس وحضروا منزله .. وأرادوا قتله فكيف سيحمي نفسه كيف يحارب ؟
" أيضربهم باسطواناته؟
أيقذفهم بكتاب شعر؟
شعر بالندم لأنه لم يتدرب على حمل السلاح؟"

الرسالة الأخيرة: من صديق إلى صديقه، وهو يتحدث عن موضوع في غاية الضياع والتيه وهو اللجوء والإخراج من الوطن التحسر على ما بقي لهم من حياة هناك "مساجدنا ستقفل.. ذكرياتنا ستموت"

والحرقة على من سيأتي من أجيال وهل ستنسى المدينة "القدس" ؟ لتصبح جزءا من كتاب التاريخ..
وإشارة إلى الريح وهي دلالة على الضياع والعذاب الآتي بعد ضياع الوطن.
في هذه الرواية وما تلاها من رسائل يجعلنا نبيل خوري نتأمل المأساة بكل أبعادها وهو توثيق لبعض ما حدث في حارة النصارى على وجه الخصوص وأحوال أهلها وما آلت إليه الأمور بعد حارب 1967.




أنصحك بقراءة الرواية، والطبعة التي كانت بيد يدي ط2/دار النهار للنشر /بيروت 1994

شارك

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More